حكم عمل الكيانات الموازية للشركات والمصانع بحيث لا يشملها الحجر عند الإفلاس

15 يوليو 2024 م

ما حكم عمل الكيانات الموازية للشركات والمصانع بحيث لا يشملها الحجر عند الإفلاس؟ فأنا أعرف أحد الأصدقاء عليه ديون كثيرة، واقترب موعد سدادها، لكنه لا يرغب في السداد في الموعد المحدد، بدعوى أن أمامه فرصة استثمارية فيها ربح كثير، ففكر في أن يبيع بعض أملاكه لأحد أقاربه بيعًا صوريًّا مع بقاء انتفاعه بها؛ حتى لا يتم الحجز عليها، فما حكم هذا الفعل؟

المحتويات

 

المبادئ والقواعد الحاكمة لتعاملات الناس في الإسلام

من المقرر شرعًا أنَّ مقصد حفظ المال مِن أهم المقاصد التي جاء الإسلام لحمايتها ورعايتها، فمقصود الشرع من الخَلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلُّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحةٌ، وكلُّ ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدةٌ ودفعها مصلحةٌ؛ كما في "المستصفى" للإمام الغزالي (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية).

ومِن أَجْلِ ذلك وضع الشرع الشريف مبادئ وقواعد حاكمة لتعاملات الناس وحفظ أموالهم، ومِن جملة هذه المبادئ: حظر كلِّ ما يشوب المعاملات المالية مِن تغريرٍ أو خداعٍ أو غشٍّ يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل؛ لما في ذلك من الإثم والعدوان والخروج عن مقتضى الفضائل والمكارم التي يجب على المسلم التحلِّي بها وضياع حقوق الناس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أخرجه مسلم، وفي رواية: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ» أخرجها الطبراني في "المعجم الكبير" وابن حبان في "صحيحه".

المحاذير الشرعية التي يشتمل عليها عمل الكيانات الموازية للشركات والمصانع بحيث لا يشملها الحجر عند الإفلاس

الصورة المسؤول عنها والتي يرغب فيها المذكور أن يبيع جزءًا من أملاكه لأحد أقاربه بيعًا صوريًّا؛ حتى يتجنب الحجز على جميع أمواله مع بقاء انتفاعه بها، لا يجوز شرعًا الإقدام عليها؛ وذلك لاشتمالها على جملةٍ من المحاذير والمخالفات الشرعية والتي أهمها:

أولًا: الصورية: فإنَّ هذه المعاملة وإن كان ظاهرها البيع والشراء إلا أنه ليس بيعًا في الحقيقة وإنما هو بيع صوري، وقد تناول الفقهاء البيع الصوري فيما يسمى ببيع التلجئة، وهو: أن يقول شخص لآخر أبيع داري منك بكذا في الظاهر ولا يكون بيعًا في الحقيقة، كما في "التعريفات" للشريف الجرجاني (ص: 48، ط. دار الكتب العلمية).

وقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية في ظاهر الراوية والحنابلة إلى بطلان هذا النوع من البيوع؛ لما فيه من الصوريَّة، ولأن الطرفين البائع والمشتري تكلما بصيغة البيع لا على قصد الحقيقة، وإنما على سبيل الصورية، فلم يكن هذا بيعًا منعقدًا.

قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (5/ 176، ط. دار الكتب العلمية): [يقول الرجل: إني أظهر أني بعت منك داري وليس ببيع في الحقيقة وإنما هو تلجئة فتبايعا، فالبيع باطل في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف، ومحمد؛ لأنهما تكلما بصيغة البيع لا على قصد الحقيقة، وهو تفسير الهزل، والهزل يمنع جواز البيع؛ لأنه يعدم الرضا بمباشرة السبب فلم يكن هذا بيعا منعقدا في الحكم] اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (6/ 308، ط. دار عالم الكتب): [فصل: بيع التلجئة باطل. وبه قال أبو يوسف، ومحمد] اهـ.

وهو مقتضى مذهب المالكية أيضًا الذي يعتبر الحقائق دون ظواهر العقود وصورتها المعلنة، قال العلامة ابن الشاط في حاشيته "إدرار الشروق على أنواء الفروق للإمام القرافي" (1/ 180، ط. عالم الكتب): [القواعد الشرعية تقتضي أنه لا تترتب الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات إلا على النيات والقصود وما ليس بمنوي ولا مقصود فهو غير معتد به] اهـ.

ومن ذلك كلامهم عند التنازع في الصداق المتفق عليه سرًّا، ومعلن بغيره، فقد ذهبوا إلى أن المعلن لا يعمل به متى قامت البينة على كونه صوريًّا فقط، وأن العبرة بالمتفق عليه سرًّا، وهو ما ينسحب على الصورة المسؤول عنها، حيث يقصد الطرفان العمل بالمتفق عليه سرًّا، وهو بقاء المال على ملك صاحبه الأول دون انتقال إلى الثاني وهي عين الصورية.

قال العلامة الدردير في "الشرح الكبير أعلى حاشية الدسوقي" (2/ 313، ط. دار الفكر): [(وعمل) عند التنازع (بصداق السر) أي الذي اتفقا عليه في السر (إذا أعلن غيره) فادعت المرأة أو وليهما أنهما رجعا عما اتفقا عليه في السر وقال الزوج: لم نرجع عن ذلك بل العقد على صداق السر (وحلفته) الزوجة (إن ادعت) عليه (الرجوع عنه) أي عن صداق السر الأقل، (إلا) أن يثبت (ببينة) تشهد على (أن المعلن لا أصل له) فيعمل بصداق السر وليس لها تحليفه] اهـ.

والقول بعدم الاعتداد بالبيع الصوري هو ما جرى عليه القضاء المصري، فقد قضت محكمة النقض المصرية في الطعن رقم ٨٣٠ لسنة ٦٢ قضائية على أنه: [متى كان العقد صوريًّا فإنه يعد غير موجود قانونًا حتى ولو سجل] اهـ.

ثانيًا: التحايل: فإنَّ الاتفاق المبرَم ليس مقصودًا على حقيقته بل هو تحايل لأجل التهرب من الحجز وعدم السداد للدائن، وقد نهى الشرع الشريف عن الحيل التي يحاول أصحابها قلب الحقائق وإلباس الشيء المحرم لباس المباح المشروع؛ بـ"أن يظهر عقدًا مباحًا يريد به محرمًا، مخادعة وتوسلًا إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق"؛ كما قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 43، ط. مكتبة القاهرة).

قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (5/ 187- 188، ط. دار ابن عفان): [قاعدة الحيل، فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة، فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعًا، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة] اهـ.

والتحايل لأجل الهروب من السداد هو من أكل أموال الناس بالباطل، وقد حرَّم الله تعالى أكل أموال الناس بدون وجه حق أو بغير طيب نفس منه، فمن اعتدى على الأموال كان آثما شرعًا مستحقًّا للعقوبة في الدنيا والآخرة، ووجب عليه المبادرة بالتوبة من هذا الذنب؛ قال تعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۝ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 29- 30]، وعن أبي بَكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» متفق عليه.

كما نهى الشرع الشريف عن الحصول على أموال الناس مع عدم القدرة على سدادها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله» أخرجه البخاري في "صحيحه".

قال العلامة ابن المنير في "المتواري على أبواب البخاري" (ص: 267، ط. مكتبة المعلا- الكويت) معلقًا على هذا الحديث: [قلت: رضي الله عنك هذه الترجمة تبين أن الاستدانة مقيدة الجواز بالقدرة على التحصيل] اهـ.

ثالثًا: اشتمال المعاملة على الكذب: فإنَّ تظاهر السائل بالبيع أو التنازل لهذا الجزء من ماله، وتظاهر الطرف الآخر -وهو المشتري أو المتنازل له- بشراء هذه السلعة وظهور كونه مشتريًا -فعلٌ غير مطابق للواقع؛ وذلك لأنهما يدَّعيان فعلًا لم يفعلاه، ومعاملة لم يقوما بها على الحقيقة، وكل هذا من الكذب، إذ الكذب إخبار عن الشيء بخلاف ما هو، وهو محرم بالنص الشرعي من القرآن والسنة.

رابعًا: التقاعس عن السداد مع القدرة عليه: فتقاعس المقترض عن السداد مع القدرة عليه منهي عنه شرعًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ» أخرجه الشيخان. ومطل الغني أي: تأخيره أداء الدَّين من وقتٍ إلى وقتٍ، والمطل: منع أداء ما استحق أداؤه، وهو حرام من المتمكن، فيحرم على الغني الواجد القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه، ولو كان غنيًّا ولكنه ليس متمكنًا جاز له التأخير إلى الإمكان، وفي الحديث: الزجر عن المطل.

وتوصي دار الإفتاء المصرية المقترض بحسن الأداء، فلا يليق مقابلة إحسان المقرض للمقترض إلَّا بالإحسان، قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، وفي الحديث: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ قَضَاءً» رواه الإمام أحمد في "المسند" والنسائي في "السنن" واللفظ له، وفي حديث آخر: عَنْ جابرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى» رواه الإمام ابن ماجه في "السنن".

الخلاصة

بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا يجوز شرعًا للمذكور أن يُقْدِمَ على هذا الفعل المسؤول عنه، لما فيه من الصورية والتحايل والكذب والتقاعس عن السداد مع القدرة عليه، بل يجب عليه أن يسدد الدين لأصحابه متى حل موعده؛ أداء للواجب، ومقابلة للإحسان بالإحسان.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

اقرأ أيضا