القرآن الكريم هو المَصدرُ الأولُ لمعرفة الأحكام الشرعية، وقد تُرجِمَت معانيه إلى كثيرٍ مِن اللغات، وهذا نوعٌ مِن تبليغ معاني القرآن إلى جميع الناس في كل أنحاء العالم امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» رواه البخاري، ولَمَّا كان الصُّمُّ والمُعَاقُون سَمعِيًّا مِن أصحاب الأعذار الذين لا حول لهم ولا قوة لا يستطيعون فهمَ القرآنِ الكريمِ ولا تَصَوُّرَ معانيه إلَّا عَبْرَ لُغَتِهِم المعروفة، كان مِن الواجب شرعًا العملُ على تبليغهم القرآنَ الكريمَ بأيَّةِ وسيلةٍ أو لُغَةٍ يفهمونها.
ولغة الإشارة لتوضيح ألفاظ القرآن الكريم لا تعدو في الحقيقة أنْ تكون نقلًا لمعانيه وتبليغًا إلى مَن لا يقرؤه على الورق؛ فالوجود الإشاري هو نوعٌ مِن أنواع الوجودات الأربعة التي هي:
الوجود العيني، والذهني، واللفظي، والرسمي، وهذه الإشارات وُجُودٌ في الأعيان؛ فلغة الإشارة هي محاكاةٌ للمعاني القرآنية وبيانٌ لأحكامه وليست هي بديلًا لِلَّفظ القرآني المُعْجِز، ودلالة هذه الإشارات على مدلولاته ومعانيه كدلالة التفسير نفسه على تلك المعاني، وهذه اللغة الإشارية مِن الوسائل التي تُقرِّبُ الفهم، والوسائلُ لها أحكامُ المقاصد، بل هي في حقيقتها تَأَسٍّ واتباعٌ للمنهج القرآني في بَسْطِ المعاني وتقريبها إلى الأفهام؛ لأن الله تعالى إنما ساق تلك الألفاظ بغرض تفهيم المُتَلَقِّي، والمسلمون مأمورون بمواكبة وسائل عصرهم في تبليغ دينهم وإيصاله إلى العالمين.
ولَمَّا كانت لُغَةُ الإشارة هي اللُّغَةَ التي تٌمَكِّنُ إخواننا الصُّمَّ -ذوي الأعذار الخاصةِ- مِن فهمِ أُمُورِ دِينِهِم ومُمَارَسَةِ شعائره مِن صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ، وذلك لا يَنْفَكُّ عن فهم معاني القرآن الكريم الذي هو المَصدَرُ الأول للتشريع، فإنه لا مانع شرعًا مِن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة الإشارة التي يتعاملون بها.
ولا بُدَّ في هذا المقام أنْ يَنضَبِطَ العملُ الذي يَرمي إلى مُحاكاة معاني القرآن الكريم بترجمتها إلى لغة الإشارة بعِدَّة ضوابط حتى يَخرُجَ بصورةٍ شرعيةٍ، منها على سبيل المثال:
- ضرورة فهم اللغة العربية كما عُهِدَتْ في العصر الأول ودلالات المعاني القرآنية كما أرادها الله عَزَّ وَجَلَّ وتحقيقها على الوجه الصادر منه تبارك وتعالى؛ فإنَّ بعض المعاني قد تتغير دلالاتها بمرور الأزمان فتتغير عن ما كانت عليه.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/140، ط. دار ابن عفان): [اللَّازِمُ الِاعتِنَاءُ بفهم مَعنَى الخِطاب؛ لأنه المَقصودُ والمُراد، وعليه يَنبَنِي الخِطابُ ابتِدَاءً، وكثيرًا ما يُغفَلُ هذا النَّظَرُ بالنسبة لِلكِتاب والسُّنَّة، فتُلْتَمَسُ غَرائبُه ومعانيه على غير الوَجهِ الذي يَنبغي، فتَسْتَبْهِم على المُلْتَمِس، وتَسْتَعْجِم على مَن لَم يَفهم مَقَاصِدَ العَرَب، فيكون عَمَلُهُ في غير معمل، ومَشْيُهُ على غير طريق] اهـ.
- وينبغي أن يكون ثُبُوتُ المعنى وصِحَّتُه مأخوذًا مِن تفسيرٍ مَقبولٍ جارٍ على قواعد المُجتَهِدِين في القبول والرَّدِّ.
- كما يجب عند تحقيق معاني الألفاظ القرآنية القيام بجمع طرق تفسيرها مِن كُتُبِ التفسيرِ المُعتَمَدَةِ واجتهاد المُجتَهِدِين المُعتُمَدِين؛ للوصول إلى المعنى الذي يَغلِبُ على الظَّنِّ أنه هو المراد مِن الله سبحانه وتعالى، وهذا يُرجَع فيه إلى المتخصصين وخاصةً المُعتَنِين بالتفسير والحديث والفقه وأصوله.
- وأن يكون التمثيلُ الإشاريُّ لمعاني الألفاظ القرآنية واضحًا في أنه محاكاةٌ لِلمعنى وليس بديلًا لشيءٍ مِن اللَّفظ القرآني؛ كما سَبَقَت الإشارةُ إليه.
ودار الإفتاء المصرية لا يَسَعُها إلَّا الإشادة بهذا العمل الذي تَتَعَطَّشُ إليه المكتبة الإنسانية وذَوُو الِاحتِياجات الخاصة مِن إخواننا وأخواتنا مِن الصُّمِّ والبُكْمِ، وتَرَى أنه جائزٌ شرعًا، بل هو مِن أَجَلِّ الأعمال وأَحَبِّها إلى الله ورسوله؛ يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]؛ قال العلَّامة الخلوتي الحنفي في "روح البيان" (7/182، ط. دار الفكر): [والمراد ما يتعلق بالرسالة وهى سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب مِن خَلْقِهِ، أي: إيصالُ الخَبَرِ مِن الله الى العبد] اهـ، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» رواه البخاري مِن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ» رواه البخاري مِن حديث أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه.
وبِناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز شرعًا ترجمة معاني القرآن الكريم بِلُغَةِ الإشارة، بل وذلك مِن أَجَلِّ الأعمال وأَحَبِّها إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه تبليغٌ لِدِينِ اللهِ ومُرادِهِ مِن كِتَابِهِ، على أنْ يكون مُقَيَّدًا بالضوابط الشرعية السابق ذِكْرُهَا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
|